اللاإنجابية بين وهم العبثية وحقيقة الإيمان
أرى أن كثيرًا من الناس في "ريديت" يرددون الفكرة اللاإنجابية، وأنا مستغرب من انتشارها وكيف أن المجتمع لم يعترض عليها، ولم أجد فردًا يرد عليهم. بسم الله نبدأ:
أولًا، الفكرة اللاإنجابية تنص على الامتناع عن الإنجاب والتكاثر باعتباره فعلًا أخلاقيًا بناءً على عدة نقاط:
أولًا وأشهرها: تجنب إلحاق المعاناة والآلام بالذرية؛ فلو كانوا معدومين، لما خاضوا في هذه التجربة.
ثانيًا: الحفاظ على الموارد الطبيعية في كوكب الأرض. يدّعي البعض أن كثرة الإنجاب تؤدي إلى استهلاك الموارد، وبالتالي يحدث خلل في النظام البيئي، مما يؤدي إلى كارثة تجعل الأرض غير قابلة للعيش بسبب نقص الموارد.
ثالثًا: عدم موافقة المولود على وجوده؛ فكيف ننجب دون موافقة المولود؟
الرد على النقطة الأولى: مشكلة اللاإنجابيين هي نظرتهم القاصرة للحياة، فهم يرون أنها مجرد دنيا، وما يهلكهم إلا الدهر، ويظنون أن الحياة عبثية ولا رجوع فيها إلى الله سبحانه. أخواني وأخواتي، هناك آخرة، وهناك جنة، وهناك نعيم أبدي لم يخطر على قلب إنسان من حلاوته. أما الدنيا فهي تنقضي بسنوات قليلة وُشبه وقت الدنيا مقارنة بالآخرة على أنه ساعة. ألا ترون أنه عرض مربح أن نتعب قليلًا لنرتاح كثيرًا؟ فما بالكم بالخلود؟ ومن نعمة الله علينا حتى في الدنيا كمؤمنين أننا نشعر بالنعيم والسعادة والاطمئنان كلما زدنا في الطاعات.
ويزيد أجرنا وتزداد درجاتنا كلما زادت الفتن وصبرنا، وهذا مثبت؛ فكلما زاد إيمان الشخص، زاد امتحانه. وبالتالي، يجب أن نفرح بصبرنا على المصائب، لأنها دليل على الإيمان.
وإن قال قائل: "ما أدراني أنني قد أنجب فاسقًا أو كافرًا خالدًا في النار، فأكون أنا متسببًا في عذابه؟"
قلنا: أنت لست مطالبًا بقدر الله سبحانه؛ فالهداية من الله. لا تستطيع أن تهدي من أحببت. وإن كان كلامك صحيحًا، فإن آدم عليه السلام سيكون أكبر مسبب للآلام وأكثر شخص أدخل الناس إلى جهنم، ولكنه ليس كذلك، بل هو نبي نذكره بالسلام ونسأل الله له الرحمة، بل هو في الجنة ومن المسلمين. والله لن يحاسبك على معصية ابنك أو فسقه إذا ربيته تربية حسنة ولم تقصر في توجيهه.
ومن جهة أخرى، إذا فعل ابنك حسنة، فستأخذ الأجر، لأنك كنت سببًا في هدايته وإسلامه. والله إنها تجارة مربحة بلا خسائر لك.
أما النقطة الثانية بشأن موارد الأرض، فنقول: إن الله قدّر المقادير بحكمة وعلم وإحاطة، ويستحيل تصور خلل في النظام البيئي بسبب كثرة البشر. يقول الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (سورة الشورى: 27). والله إن هذه الآية تكفي للرد على هذه النقطة.
أما النقطة الثالثة بشأن عدم موافقة المولود، فنقول: يستحيل عقليًا وواقعيًا سؤال المعدوم إذا كان يريد الوجود، فكيف نسأله؟ ولو فرضنا جدلًا أننا سألناه، كيف سيرد وهو بلا إرادة ولا عقل؟ وما أدرانا أنه يعلم مصلحته؟ فلو كان الرضيع لا يعلم مصلحته، فكيف بمن هو دون ذلك ولم يوجد أصلًا؟ هذا والله من السفسطة والجدال بالباطل، ومع كامل احترامي، هو كلام لا يودي ولا يجيب، ويدل على ضعف في التفكير.
أما على الجانب الدنيوي تخيل، يا أخي أو أختي، عندما تبلغ من العمر 50 أو 60 أو 70 سنة، يضعف بدنك ويوهَن جسمك وتتفاقم عليك الأمراض واحدة تلو الأخرى، وترى أن أبسط فعل في شبابك يصبح مجهودًا كبيرًا في كبرك. من سيساندك؟ حتى لو قلت إنك ستكون بصحة جيدة، في النهاية ستحتاج للمساعدة على فراش الموت، ولن يكون لديك ابن يساندك. وإذا توفيت، فقد تُترك في منزلك لأيام أو شهور دون أن يدري أحد عنك، وقد تتعفن جثتك. هذا ما تريده حقًا؟ يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له."
ليس كلنا قادرين على تأليف كتب أو ابتكار اختراعات، وليس كلنا نملك مالًا لإنشاء وقف، ولكن أغلبنا يمكنه الإنجاب. هؤلاء الأولاد سينجبون، ويستمر نسلهم إلى يوم القيامة. فلو خرج من ذريتك من يتصدق أو من يكون عالمًا، فلك الأجر. يا شيخ، لو كان في كل جيل من ذريتك مسلم واحد، فلك الأجر. فما بالك لو كانوا أفرادًا في كل جيل؟ أي أجر هذا؟ علينا فقط أن نحتسب الأجر عند الله.
ختامًا، يا أحبة، أرجو أن تعلموا أن هذه الفلسفة تحتوي على خبث عظيم، وقد تأثر بها حتى بعض العلماء الذين خاضوا في الفلسفة. فما بالكم بالعامة؟ يجب أن يكون في بالك أن بعض الأفكار مبنية على أصول ركيكة، وما بني على باطل فهو باطل. فكرة اللاإنجابية أتت من فكرة عبثية الحياة وعدميتها، واعتقادهم بأن هذه الدنيا هي الحياة الوحيدة، ولا شيء بعد الموت. بمجرد إدراكك لهذه الحقيقة، ستتضح لك أمور كثيرة. خلاصة كلامي: اجعل دائمًا بوصلتك في الحياة هي الدين؛ لأننا بدونه نضيع، والله. وتعلموا دينكم وتفقهوا فيه، فهو أنفع لكم في الدارين. وجزاكم الله خير